Thursday, Mar 28th, 2024 - 13:13:43

Article

Primary tabs

تثبيت سعر صرف الليرة على الدولار تحتّمه ظروف الاقتصاد

صدرت أخيراً إشاعات تنذر بإنهيار الليرة اللبنانية ومعها النظام المصرفي وتمّ تحميل سياسة الثبات النقدي مسؤولية هذا الأمر. هذه الإشاعات تُخالف النظرية الإقتصادية التي تقول أن الثبات النقدي لبلدان مثل لبنان هو أفضل الحلول بإنتظار أن تقوم الحكومة بوضع خطّة إقتصادية تسمح بتغيير هيكلية الإقتصاد وتخصصه.الوضع الإقتصادي والمالي الذي يعصف بلبنان هو وضع تعيس كما تُثبته الأرقام الرسمية. هذا الأمر يُشكل ضغطا على السياسة النقدية التي يتبعها مصرف لبنان – أي سياسة الثبات النقدي (سعر صرف عملة ثابت وسعر فائدة ثابت).

وبالتالي ومع فقدان الدولة لهامش التحرك المالي إزدادت الضغوطات على الليرة اللبنانية وأصبحت معها خطوات مصرف لبنان للدفاع عن الثبات النقدي مصيرية للكيان اللبناني.

فوائد تثبيت العملة

السؤال الأساسي الذي يُطرح دائمًا هو عن الأسباب التي تدفع بلد مُعيّن إلى تثبيت عملته؟ النظرية الإقتصادية تُعطي ثلاثة أسباب رئيسية:

أولًا – إن إستحالة التنبؤ بتغيّرات سعر صرف عمّلة مُعيّنة في ظل نظام سعر صرفّ حرّ على الأمد القصير أو الطويل، يؤدّي إلى أضرار كبيرة في الإقتصاد.

وإذا كانت كلفة هذه الأضرار غير مُقدّرة بدقّة إلا أن العديد من الباحثين الإقتصاديين، يعتقدون أن الغموض الذي يحيط بسعر صرف العملة في ظل نظام صرف حرّ يُقلّل من التجارة العالمية، الإستثمارات، ويطرح مُشكلة إجتماعية من ناحية أن رأسمال الفرد والشركات غير مضمون.

كما أن الموظفين والشركات المُتضرّرين من تقلّبات أسعار صرف العملة، يُطالبون الحكومات بحمايتهم من الطلب على الإستيراد.

أضف إلى ذلك إن ثبات العمّلة يعني ثبات التبادل التجاري مع الخارج وبالتالي، من المُحبّذ أن تكون العملات ثابتة إلى حدٍ معين في ما بينها. وهذا الأمر كان أحد دوافع واضعي معاهدة بريتون-وودز (Bretton Woods).

ثانيًا – من المعروف في علم الإقتصاد أن ثبيت العملة الوطنية مقابل عملة رئيسية تتمتّع بتضخّم ضعيف، تُساعد كثيرًا على لجم التضخّم الوطني بغض النظر عن الوضع الإقتصادي والمالي. هذا الأمر تمّ إثباته في حالة لبنان حيث أنه وعلى الرغم من الوضع السياسي – الأمني – الإقتصادي
– والمالي التعيس، حافظ التضخم في لبنان على مستويات مُنخفضة كانت لتكون أكبر بكثير لو تمّ تحرير الليرة اللبنانية وبالتالي كانت لتقتل كل نمو يُسجّله الإقتصاد اللبناني. هذا السلوك يأخذ عدة أوجه لكن الأساس يبقى في أن إعلان تثبيت العملة مقابل عملة عالمية يمنع الدولة من إتباع سياسة ماكرو- إقتصادية تمدّدية مُفرطة (Lahiri 2005).

ثالثًا – كل دولة تدخل في حالة تضخم كبير وعدم ثبات في الأسعار يجب تثبيت العملة فيها. وهذه حال لبنان الذي وصلت فيه نسبة التضخم إلى 400% في ثمانينات القرن الماضي. وبالتالي، فإن سعر الصرف الثابت يحصر التضخّم في التبادلات التجارية العالمية ويُعطي القطاع الخاص توجيهات عامة في ما يخصّ توقعات التضخّم (Bruno, 1991).

يبقى السؤال، لماذا هناك صعوبة في تثبيت العملة؟

تاريخيًا، أثبتت تجربة بريتون-وودز (1946-1971) أن العملات الضعيفة لم تستطع الصمود في ظل العولمة والإدارة السيئة التي إعتمدتها الدول في إدارة ماليتها العامّة.

وقد أدّى هذا الأمر إلى إعادة تقييم لبعض العملات بشكل مُتقطّع (وليس مُنتظم)، لكنه لم يكن كافيًا لمحو تداعيات العولمة والإدارات السيئة للمالية العامّة مما أدّى إلى التخلّي عن نظام بريتون-وودز واللجوء إلى سعر صرف عملة حرّ تحكمه الأسواق المالية. هذه الأخيرة تطوّرت بشكل دراماتيكي وأصبحت تتحكّم بقيمة العملات.

وهنا يُطرح السؤال: إذا تمّ التخلّي عن تثبيت سعر صرف العملة، لماذا العودة إليه الأن؟ المُشكلة أنه وبعد اللجوء إلى الأسواق المالية، أصبحت العملات تتأثر بشكل كبير بحركة تنقّل رؤوس الأموال التي ضربت الإقتصادات الضعيفة وبالدرجة الأولى إقتصادات الدول في طور النمو.

وبالتالي، خرجت إلى العلن مجموعة من العملات القويّة التي أصبحت تُستخدم بشكل رئيسي في التعاملات الدولية (وعلى رأسها الدولار الأميركي).

وعمدت العديد من الدول في طور النمو إلى تثبيت عملتها الوطنية مقابل هذه العملات القوية وذلك بهدف درء التداعيات السلبية لفقدان العملة الوطنية من قيمتها وما له من تداعيات على الأمن الإجتماعي للمواطنين.

وتُظهر بعض الدراسات الميدانية (Empirical Studies) أن كلفة تثبيت العملة في الدول في طور النمو أو الدول التي تعيش حالة من عدم الثبات السياسي والأمني على الإقتصاد الوطني تبقى أقل من الكلفة في حال كان سعر صرف العملة حرّ.

لكن هذا الأمر لا يعني بالضرورة أن كل الدوّل في طور النمو يجب عليها أن تُثبّت سعر صرف عملتها، بل على العكس يتوجّب تقوية الإقتصاد الوطني وجعله مُتخصصًا لكي يجذب رؤوس الأموال وبالتالي يدعم العملة الوطنية خاصة أن الأسواق المالية تضّغط كثيرًا على العملات ذات سعر الصرف الثابت وتضع تعقيدات تقنية عالية في وجه تثبيت العملات.

جدير بالذكر أن سوق العملات (الرسمي والـ OTC) يُسجّل عمليات تبادل عملات في ما بينها بقيمة تزيد عن 3 تريليون دولار يوميًا أي أكثر من إحتياطات 40 مصرف مركزي عالمي مُجتمعين! وهذا يعني أن الدول التي تدخل سوق العملات، عندها واجب إقتناء إقتصاد قوي تحت طائلة الشرذمة والذوبان في هذا المُحيط العاصف.

ثلاث ركائز

من المعروف أن تزامن سعر صرف عملة ثابت مع عجز في الموازنة، يؤدّي حتمًا إلى مُشكلة في ميزان المدفوعات (Kurgman 1979) وبالتالي يُشكّل ضغطا كبيرا على العملة الوطنية. هذا الأمر يعني أن على المصرف المركزي تدعيم إحتياطاته من العملات الأجنبية بشكل شبه دائم (Lahiri 2005).

وبالتالي، يفرض إعادة التوازن لميزان المدفوعات بالدرجة الأولى وخلق ما يُمكن تسميته بمصيدة رأس المال أو الهندسة المالية التي من المفروض أنها إجراء غير طبيعي مُبرّر (حصريًا) بغياب السياسات الإقتصادية والمالية التي تلجّم العجز وتُخفّف من العجز في الميزان التجاري عبر تغيير هيكلية الإقتصاد.

من البديهي القول أن الهندسات المالية التي تهدف إلى دعم ميزان المدفوعات لا يُمكن أن تستمرّ على الأمد البعيد، لذا هناك إلزامية على الحكومات العمل على تخصيص إقتصادها من خلال جذب الإستثمارات بواسطة الأداة الضريبية وتحسين مناخ الأعمال.

يبقى القول أن الثبات النقدي في لبنان هو أفضل إجراء تمّ القيام به لأنه حافظ على ثروات اللبنانيين على مدى أكثر من 20 عامًا ودعم إحتياطي المصرف المركزي من العملات الأجنبية وسمح بتمويل عجز الدولة التي غابت فيها الخطط الإقتصادية منذ عهد الرئيس فؤاد شهاب.

لذا المطلوب اليوم إطلاق خطّة إقتصادية واعدة تسمح للبنان بتغيير هيكلية إقتصاده والتخصّص في بعض القطاعات الواعدة وتسمح له بالتخلّي عن سعر صرف عملة ثابت. وبإنتظار هذه اللحظة، يُمكن القول أن التخلّي عن سياسة الثبات النقدي تُشكّل عملية إنتحار للكيان اللبناني (Euthanasie).

بروفسور جاسم عجاقة-جريدة الجمهورية

Back to Top